حرب أنابيب الطاقة
من أهم العوامل التي تحرك العلاقات الدولية حاليا إن لم نقل الأهم و التي من خلالها يمكننا فهم السياسات الدولية هي مصادر الطاقة و سبل التحكم فيها لضمان الأمن الطاقي لكل دولة.
و أهمية الطاقة حاليا تنبع من كونها تدخل في أبسط تفاصيل الحياة اليومية لسكان الأرض، بها تسقط دول وبها يرتفع شأن أخرى، فهي أكبر عامل يتحكم في أبسط احتياجات سكان الأرض، فبانخفاض سعرها ينخفض ثمن رغيف الخبز للمواطن البسيط و بارتفاعها ترتفع الأثمان. بل إن هناك دول قائمة فقط على كونها تطفو على بحار من الغاز و النفط و إن ذهبت هاته المصادر ذهبوا.
وفي الظرفية الحالية و نتيجة شح مصادر الطاقة التقليدية و توزيعها الجغرافي في أرجاء الكرة الأرضية وكذا الصعوبات اللوجيستكية المرتبطة بها كالنقل مثلا، ثم عدم تمكن التقنيات الحديثة من إيجاد مصادر بديلة فعالة يعول عليها لتكون بدائل لمصادر الطاقة التقليدية المتمثلة في النفط و الغاز و عدم قدرة مصادر الطاقة النظيفة المتاحة حاليا على سد الخصاص الطاقي، كل هاته العوامل جعلت الدول ترتب سياساتها لأجل هدف واحد هو السعي لضمان أمنها الطاقي كأولوية عاجلة.
ففي ظل هاته الوضعية تبرز إشكالية التوزيع العادل للموارد الطاقية بين مجموع سكان الأرض و تبرز نظريات إقتصادية و قانونية جديدة تتسائل عن من له أحقية امتلاك الموارد الطبيعية للكرة الأرضية ، هل هي الدول التي تقع على أراضيها تلك الموارد ؟ أم مجموع سكان الأرض؟
وإذا كانت الحرب الروسية الأكرانية تحمل شعار الحفاض على التوازن العسكري بين المعسكرين الروسي من جهة ودول الناتو بقيادة الولايات المتحدة من جهة أخرى، هذا المطلب الذي تحتج به روسيا من أجل إبقاء مرمى مدافع الناتو بعيدة عن الأراضي الروسية من خلال منع انضمام أوكرانيا المحادية لهذا الحلف، فإن عصب هاته الحرب يتمحور حول السيطرة على مصادر الطاقة و استعمالها للضغط و إضعاف الخصم من أجل إخضاعه.
وتعتبر الدول الأوربية المنضمة لحلف الناتو من أكبر المستهلكين لموارد الطاقة و ذلك لعاملين اثنين على الأقل، أولهما برودة الطقس الأوربي و اعتماد مواطني أوربا على الغاز الطبيعي للتدفئة و ثانيهما ارتكاز الاقتصاد الأوربي و خاصة صناعاته العملاقة على موارد الطاقة ،هاته الطاقة التي لا تملكها و لا تملك حتى سبل السيطرة على سياسات الدول التي تملكها .والأخطر من ذلك هو ارتهان أوربا لمصدر واحد للطاقة بنسبة كبيرة كألمانيا أكبر مصنع في أوربا التي ترتهن طاقيا لروسيا بنسبة ستين في المائة.
لذلك و بعد أن أصبحت روسيا تلوح صراحة باستعمال ورقة قطع الغاز للضغط على أوربا حليفة الناتو الشئ الذي يهدد صراحة توازنات هاته الدول الإقتصادية و الإجتماعية مما دفع بعضا منها و على رأسها ألمانيا العظيمة مطالبة مواطنيها بالتزود بالمواد الغذائية تحسبا لأية ندرة مرتقبة بالإضافة لتحذير الأمم المتحدة من مجاعة شاملة في الكرة الأرضية محتملة ناتجة عن الحرب الروسية الأكرانية. لذلك أصبح لزاما على أوربا بل مسألة حياة أو موت إيجاد مصادر أخرى للطاقة تكون في منأى عن السيطرة الروسية أو أذنابها في مختلف أرجاء الكرة الأرضية.
وتعتبر الجزائر جغرافيا أقرب مصدر للطاقة بالنسبة لأوروبا غير أنها ليست خيارا جيدا بل يجب التعامل معه بشكل مؤقت دون الإرتهان الكامل له و ذلك لعدة أسباب، أولها أن الجزائر تعتبر ذنبا من أذناب روسيا في أفريقيا و الإعتماد عليها بشكل كبير هو بمثابة تكرار لنفس الخطأ الاستراتيجي مع روسيا، ثانيا مصادر الطاقة الجزائرية و إن كانت قريبة جغرافيا فهي مصنفة من بين المصادر القابلة للنضوب، ثالثا طبيعة النظام السياسي الجزائري العسكري تجعله غير ذي ثقة كونه لا يتميز بالبراكماتية الإقتصادية و التجارية التي تعتبر من أهم خصائص التجارة الدولية،حيث أن هاته الأنظمة تتميز بالمزاجية في اتخاد القرارات المصيرية خدمة للمصالح الضيقة لحكامها و لأسيادهم في الخارج و التي لا تكون بالضرورة متماهية مع مصالح شعوبها ، كما أن التوازن الإجتماعي الجزائري جد هش بالنظر لكونها لازالت تعيش على إيقاع الحراك الشعبي الذي من الممكن أن يتطور في أي لحظة إلى ثورة شعبية يجهل إلى أي مصير ستؤول.
وبما أن الغاز الجزائري يبقى فقط حلا مؤقتا على أحسن تقدير يظهر الغاز النيجيري الأمثل كحل لأزمة الطاقة العالمية و الأوربية على الخصوص، هذا الغاز و إن كان مصنفا من بين المصادر الطاقية الغير قابلة للنضوب إلا أنه يطرح عدة تحديات أولها الموقع الجغرافي البعيد و ما يترتب على ذلك من إكراهات مادية و سياسية و لوجيستكية، حيث تعتبر التكلفة المادية لإقامة المنشآت الكفيلة بنقل الغاز النيجيري جد مكلفة كما أنها ستستغرق وقتا طويلا ليكون عمليا، هذا بالإضافة لعبوره لعدة دول يتطلب التعامل معها بشكل يضمن سلامة المنشآت العابرة.
و لأجل نقل الغاز النيجيري هناك مشروعان يتم التفاوض و دراسة جدواهما هما أنبوب الغاز النيجيري -الجزائري ثم الأنبوب النيجيري-المغربي و لكل منهما إيجابياته و سلبياته وإن كان في الواقع أحدهما لا يلغي الآخر.
فبالبنسبة للأنبوب العابر للجزائر يتميز بكونه الأقصرمسافة بأربعة آلاف كيلومتر و بالتالي الأقل تكلفة و الأسرع في التنفيذ.، كما أنه يعبر عددا قليلا من الدول هي نجيريا و النيجر وصولا إلى الجزائر ومنها إلى أوربا.
غير أن هذا الأنبوب و إن كان الأكثر واقعية تنسحب عليه جميع سلبيات التي سبق طرحها بالنسبة للغاز الجزائري و هي ارتهان أوربا لروسيا و أذنابها و هو أساس المشكل، بالإضافة لمرور الأنبوب بمنطقة غير آمنة و هي منطقة الساحل التي تتميز بتغلغل عدة تكثلات إرهابية و كذا قوات الفاكنر العسكرية الروسية الغير خاضعة لأي قانون و التي تلعب دورا كبيرا في زعزعة الأمن بتلك المنطقة مما يشكل عائقا أمام تبلور أي نشاط اقتصادي بها.
لذلك يبقى المشروع الأكثر قابلية للتطبيق و الدليل على ذلك بدأ الدراسات الخاصة به هو مشروع أنبوب الغاز النيجيري-المغربي و الذي بالرغم من سلبياته المتمثلة في طوله الذي يبلغ 5650 كيلومتر و بقيمة استثمارية تبلغ 25 مليار دولار أمريكي وكذا طول مدة الإنجاز و عبوره لحوالي ثلاث عشر دولة إفريقية مع ما يترتب على ذلك من مفاوضات و تراخيص.
إلا أنه و بالرغم من هاته الإكراهات يبقى هذا المشروع هو الحل الأكثر ضمانا بالنسبة للأمن الطاقي الأوربي، إذ أنه و بالرغم من عبوره لعدة دول فإنها تبقى دولا مستقرة سياسيا و اجتماعيا كما أن هذا المشروع سيسمح لها بالإنتعاش الإقتصادي مما سيؤدي حتما إلى نوع من التنمية بفضل الضرائب التي ستؤدى عن عبور أراضي هاته الدول كما سيؤدي إلى إنشاء فرص عمل لسكان المنطقة مما قد يقلص ولو بنسبة ضئيلة مشكل الهجرة إلى أوربا والتي بذلك تكون قد ساهمت بهذا المشروع العملاق بتنمية هاته الدول التي في معظمها كانت من مستعمراتها وتتحمل أوربا نوعا من المسؤولية التاريخية اتجاهها.
وفي الأخير ونتيجة هاته الحرب التي تتصدر واجهتها روسيا و أوكرانيا تحت عنوان الحفاض على تباعد حدود التماس بين ما تبقى من المعسكر الشرقي و المعسكر الغربي ممثلا في الناتو يمكن اعتبار أن العالم يمر حاليا بمنعرج حاسم سيعاد فيه ترتيب موازين القوى و تتضح فيه معالم نظام عالمي جديد بأقطاب متعددة أو قطب وحيد، من يدري؟
عمل رائع و متقون، اكمل في جهدك 🙂